تحقيق : نهي ابراهيم
"إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ۚ أن اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ ۗ أن اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا".. هل هناك أفضل من كلام الله عز وجل لتكون تلك الآية المباركة شعارًا للقضاء المصرى فى داخل جميع قاعات المحاكم المصرية، ومبدأ لكل قاضٍ أقسم على الالتزام بشرف المهنة.
القضاء الذى عُرف فى مصر منذ غزو الحملة الفرنسية والتى قام فيها نابليون بونابرت بتولية العلماء المصريين القضاء بالانتخاب بدلاً من القضاة الأتراك، ثم نشأة "المحاكم المختلطة فى مصر" عام 1875 والتى اختصت بالفصل فى المنازعات الميدانية بين المصريين والأجانب، إلى أن أنشئت "المحاكم الأهلية" عام 1883 المختصة بنظر المنازعات بين المصريين.. حتى جاء دستور 1923 والذى أقر اعتبار القضاء كأحد سلطات الدولة، فضلاً عن إقرار أن "القضاة مستقلون، لا سلطان عليهم فى قضائهم لغير القانون، وليس لأية سلطة فى الحكومة التدخل فى القضايا"، ومن بعده صدور أول قانون لاستقلال القضاء المصرى عام 1943.
إن تاريخ الهيئة القضائية فى مصر حافل بالمواقف المضادة الجادة والمهمة فى مواجهة السلطات التنفيذية والحكومات المختلفة، والتى كان منها عقد مؤتمر العدالة الأول عام 1986 للتقدم بعدد من المطالب لتحرير السلطة القضائية من الهيمنة الإدارية والمالية للسلطة التنفيذية، وكان فى مقدمة تلك المطالب نقل تبعية التفتيش القضائى وصندوق الرعاية الصحية من وزارة العدل إلى مجلس القضاء الاعلى، بالإضافة إلى المطالبة بتخصيص موازنة مالية منفصلة للقضاة، كما شهد تاريخ مصر القريب مواجهات كبرى بين تيار استقلال القضاء ونظام "مبارك"، فيما عرف باسم "أحداث القضاة"، التى كشفت عن التجاوزات التى وقعت فى الانتخابات التشريعية التى أجريت عام 2005 وأشرف عليها القضاة.
أما عن تاريخ الثورة المصرية منذ عام 2011، فتعد تلك الفترة الأكثر اشتعالاً فى تاريخ السلطة القضائية فى مصر، حيث جرت الأمور إلى أن وضعت الأحكام القضائية محلاً للانتقاد، بعد تحملها عبء مسئولية محاكمة نظامين سابقين مرا على الدولة، لم يتعاطف معهما الشعب المصرى واتهمهما بارتكاب الجرائم فى حق الدولة المصرية، وكان الأبرز فى تلك المحاكمات هى محاكمة كل من محمد حسنى مبارك رئيس الجمهورية الأسبق، بعد اندلاع ثورة 25 يناير، وتوجيه بعض الاتهامات له ولأسرته ما عرفت بـ"قضية القرن"، ومحاكمة الرئيس الأسبق محمد مرسى" عقب اندلاع أحداث ثورة 30 يونيو، وبدوره أيضًا تم توجيه بعض الاتهامات له، كل ذلك فى نطاق حالة من التعصب والشد والجذب بين أبناء الوطن، ووقوع مئات الأحداث التى خولت جميعها إلى السلطة القضائية للفصل فيها..
واجه القضاء المصرى خلال تلك الفترة محاولات عنيفة لتدمير تلك المؤسسة الشامخة كغيرها من المؤسسات حينها، وشهد القضاة بمختلف مناصبهم هجمات شرسة، كان من المتوقع بعدها سقوط تلك السلطة، ولكن كان الواقع دائمًا ما يعكس سلطة قضائية شامخة بمختلف أركانها، كواحدة من المؤسسات القليلة التى حافظت على تماسكها فى الدولة بعد كل تلك الأحداث وتغييرات الأوضاع.
كان يجب فى ظل بحث تلك الهيئة على ضمان المزيد من حقوقها خلال تلك الأيام، أن نتعرف على منادات رجال العدالة فى الوقت الحالى من إقرار تشريعات والحصول على حقوق وتحسين للمنظومة الإدارية بكل أشكالها والصراعات التى يواجهونها، وكان الجانب الأول من البحث هو نادى قضاة مصر والذى يعد صوت القضاة المصريين، المتحدث باسم أحلامهم ومطالبهم والدفاع عن حقوقهم، والذى أنشئ عام 1939 على يد مجموعة من رجال القضاء والنيابة العامة، وكان هدفه هو العمل على استقلال القضاء المصرى وضمان استقلالية رجاله.. نادى القضاة المعروف بمواقفه الدائمة أمام كل حدث تتعرض له الهيئة القضائية أو تتعرض له الدولة بصفة عامة.
وكان اللقاء مع المستشار عبد العزيز ابو عيانة رئيس محكمة جنايات الاسكندرية ورئيس نادي قضاة الاسكندرية واحد اعضاء مجلس ادارة نادي قضاة مصر , والذي فاز مؤخرا في الانتخابات المنعقدة في مايو الماضي للمرة الثانية علي التوالي , ومن الجدير بالذكر ان المستشار ابو عيانة قد فصل بنفسه في بعض القضايا التي كان يحاكم فيها ابناء مبارك مع بعض رموز النظام السابق , ولم يكن هو اللقاء الاول لنا معه, وقد بدأ حديثه عن قوة القضاء المصرى مستمدة من تراث ذلك الشعب العظيم، نظرًا لأن كل حكم يبدأ باسم الشعب، ودائمًا ما يسير أبناء القضاء على نهج وخطى من يستمسكون بكرامتهم ويؤثرونها على حياتهم.

وتحدث عن الاتهامات التى وجهتها بعض الدول الغربية فى الفترة الماضية، حول التشكيك فى نزاهة أحكام القضاء المصرى وتوجيه الادعاءات بغياب حقوق الإنسان داخل السجون والأقسام والمحاكم المصرية، حيث وجه الزند سؤاله حول وجود أسوأ وأبشع مما فعلته الولايات المتحدة الأمريكية بجوانتنامو فى مجال حقوق الإنسان، وإن لم يوجه لهم أى استنكار على ما فعلوه ولا لوم.
واستكمالاً للاتهامات الموجهة دائمًا إلى الهيئة القضائية خاصة بعد تحملها مسئولية الفصل فى القضايا الخاصة برجال الأنظمة السابقة، أشار البعض لها بالتأخر فى تحقيق العدالة الناجزة والحكم والفصل فيها، وقد أكد الزند فى ذلك الصدد أن بُطء التقاضى حقيقة لا مراء فيها، وعدم وجود عدالة ناجزة حقيقة لا مراء فيها ومن ينكرها فهو خائن لهذا الوطن، لكنه أرجع أسباب ذلك إلى بعض القضاة بنسبة 5% - على حد وصفه، وتعد نسبة مقارنة بالمعايير العالمية مقبولة جدًا فى أن تجد فئة أو سلطة أو هيئة نسبة نجاحها تحقق 95%، واستكمل أنه منذ مارس 2011 حققت النيابة العامة مع مئات الآلاف فى القضايا المختلفة، منها قضية قُدِم فيها 360 متهمًا، حقق خلالها مع أكثر من ألف شخص، لأن عمل القاضى والنيابة لا يقتصر على التحقيق مع المتهمين فقط، ولكن هناك الشهود أيضًا.
وأضاف، أن الظروف التى يعمل بها القضاة منذ ذلك التاريخ، ومنها غياب الخدمات عن مقرات المحاكم المصرية، وأيضًا غياب الأمن والتأمين عليها، والسبب الثالث - الذى وصفه الزند بأنه من المضحكات المبكيات - هو غياب أماكن إجراء المحاكمات فى بعض الأحيان نظرًا لقلة قاعات الجلسات، والتى خصصت لظروف العمل الطبيعية للمحاكمات التى تضم متهمين أو ثلاثة، أما قضايا الإرهاب الكبرى يقتصر الأمر فيها على ما أنشئ فى أكاديمية الشرطة ومعهد أمناء الشرطة فقط داخل نطاق وحدود القاهرة الكبرى، أما عن باقى المحاكم فقد أصبحت تعمل على فترتين متتابعين، وكل تلك الظروف موجودة منذ عدة سنوات ولكنها تفاقمت منذ اندلاع الأحداث الأخيرة فى مصر.
وأوضح، أن ما سبق كان هو الجانب المادى فى مسألة العادلة الناجزة، وهناك جانب آخر يختص بالتشريع، والذى حينما يتصدى القضاة لإجراء التعديلات يواجهون أمرين؛ كل منهما أسوأ من الآخر، أولاً "ترقيع" القوانين الموجودة، والثانى عدم إشراك القضاة فى إقرار التشريعات القضائية، مشددًا أنه ما زال نادى القضاة مستبعدًا من كل شىء، وهو الكيان الذى يحتضن 15 ألف قاضٍ.
ومما يثر الدهشة فى حديث رئيس نادى القضاة، هو تأكيده أن هناك بعض القضايا تُحدد لها أولى جلسات المحاكمة بعد مرور ثلاث سنوات من تحويلها إلى المحاكمة، بسبب انتظار "الدور" الطويل أمام أعداد المحاكمات.
وأخيرًا اشار ابو عيانة، بأنه يذكر لنادى القضاة فى أنه ضرب الرقم القياسى فى التطهير، وأن جملة ما تم تحويلهم لمجالس التأديب والصلاحية فاق المئة، وهو ما لم تشهده أى مؤسسة أو وزارة أو كيان آخر فى مصر، ومع ذلك مازال يواجه القضاة فى مصر شكلاً من أشكال الاستباحة لبيانات القضاة، فإن وزارة العدل والسلطة القضائية بأثرها ليس فيها بيان سرى عن قاضٍ، ثم يلقى بكل تلك البيانات فى أيادى الموظفين، ما يعود بالتهديد المستمر على حياة أى قاضٍ ومحاولات استهدافهم الذى بات سهلاً ويسيرًا.
ومن بعد نادى قضاة مصر كان البحث فى ركن آخر من أركان الهيئة القضائية، وهم رؤساء المحاكم المصرية وشيوخ قضاتها، وكانت البداية مع رئيس محكمة الإسكندرية وعضو المجلس الأعلى للقضاء المستشار سعد السعدنى، والذى افتتح حواره بأن القضاء المصرى تعرض لمحنة فى ظل العصور الحاكمة السابقة، حيث إن النظام السابق كان يعتقد أن القضاء فاسد ولابد من إعادة هيكلته، إيمانًا منهم بأن القضاة فاسدون، مؤكدًا أن منظومة القضاء تحتاج إلى التعديل بالفعل، لكن ليس رجال القضاء ووكلاء النيابة، لكن المنظومة الإدارية التى تعوق القاضى من أن يصل للعدل المطلق، فإن القاضى دائمًا ما يحكم وفقًا للأوراق والمستندات التى أمامه، وهو ما يستدعى التطوير ودخول المنظومة الإلكترونية للقضاء، مراعاة ظروف الموظفين ليصلوا إلى حد الكفاف حتى لا يلجأ الموظف للرشاوى والتزوير.

واستكمل، أن قضاة مصر يرفضون دائمًا المزايدة عليهم، وأن القضاة هم القائمون على شئون منظومة العدالة، وهم الأدرى بأوجه القصور فيها ومشاكلها وحلولها، ومن غير اللائق والمقبول أن يتم تصحيح أى أمور تخص العدالة من جهة أخرى غير القضاة أنفسهم حراس العدالة.
وأما عن المحطة الأخرى كانت مع المستشار على مكرم، الذى عرض رسالة قضاة النقض المتمثل فى تحقيق العدل الذى يعد أسمى القيم الإنسانية وأهمها، يتحقق به السلام الاجتماعى، واستقرار المجتمع وسلامته، مشددًا على أن العدل لا يتحقق إلا بقضاء عادل يمثل ضمير الأمة من خلال سلطة قضائية محايدة مستقلة تنزل حكم القانون على الكافة دون تمييز بينهم، مضيفًا أنه لا تستقر أركان الحكم فى البلاد ولا تزدهر الأمور بدون العدل، لأنه طريق الخير والرخاء والاستقرار، ما يجعل دائمًا المجتمعات المتحضرة شديدة الحرص على تحقيقه.
بعد الانتهاء من مراحل البحث فى أركان الهيئة القضائية المصرية، استوقفنى خبر يتحدث عن وجود أزمة بين نادى القضاة ونقابة المحامين فى إطار السعى للوقوف على أوجه القصور والمشكلات التى تواجه المنظومة، سواء كانت إدارية أو قانونية لمعالجتها وتقديمها للرئاسة من جانب نادى القضاة ونقابة المحامين فى الوقت ذاته، وهو ما كان غريبا من هيئتين يفترض أن يصبوا فى بحر العدالة الواحد، فالمحامون هم الوجه الآخر من منظومة العدالة فى مصر، ولذلك تعين علينا التحدث إلى نقيب المحامين الأستاذ سامح عاشور السياسى والحقوقى المصرى، والذى شهد تاريخه نضالاً واسعًا فى الكثير من القضايا القومية والعربية ضد التبعية والصهيونية، لنتعرف منه عن دور المحامين فى منظومة العدل وإنجاز العدالة ونقترب من الجدل الدائر بين النقابة ونادى القضاة.
وبدأ حديث عاشور بالتأكيد على أن نقابة المحامين شريك أساسى فى تحقيق العدالة مع السلطة القضائية، وطرف رئيسى فى منظومة العدالة، ويرى أن محاولات استدراج النقابة والمحامين إلى مواجهة مع نادى القضاة مقصود من جهات تريد أن تصرف المجتمع المصرى كله عن أن يتخذ خطواته التدريجية المركبة من أجل الوصول إلى مصر الجديدة التى نسعى إليها.
وأوضح، أن الخلاف مع نادى القضاة يتمثل فى رؤية نقابة المحامين فى ضرورة إزالة بعض القوانين التى تحتاج إلى التصويب وإحلال أخرى مكانها، بالإضافة إلى حرص النقابة على إقرار إجراءات يجب أن تتم لتساعد السلطة القضائية فى مسألة العدالة الناجزة، وهو ما يستلزم إجراء ثورة تشريعية من اجل انضاج العدالة وإزاحة كل العوائق التى تحول دون تحقيق العدل والحرية فى مصر، وأضاف أن كل ذلك يلتزم مشاورة جميع أطراف المنظومة مع بعضها لبعض لمناقشة كل تلك الأمور الهامة من أجل مصلحة القضاء المصرى.
وأشار إلى ضرورة النقاش حول أدوار الجهات المعاونة للقضاة والجهات المعاونة للمحامين فى أداء عملهم، كدور المحضرين وكيفية الاستفادة من دورهم دون عرقلة إنجاز عملية العدالة، فضلاً عن الجهاز الإدارى والخبراء وجهاز الطب الشرعى، مؤكدًا أنه إذا تم تنظيم العمل بين جميع تلك الجهات بشكل صحيح، تصبح نتيجته فى صالح العدالة المصرية.
وأكمل عاشور، أن النقابة تسعى فى الوقت الحالى إلى إجراء حلقات نقاشية تضم رئيس الجمهورية ونقابة المحامين ونادى القضاة والمجلس الأعلى للقضاء ووزارة العدل، مشددًا على أنه لدى كل من تلك الجهات رؤيا نستطيع بالنقاش والحوار المحترم الوصول إلى نتائج إيجابية.
وعبر عن وجهة نظره فى أن القضاء ليس ملكًا للقضاة، ولكنه ملكًا للمجتمع كله لأنه صاحب مصلحة فى وجود قضاء عزيز ومستقل وناجز.
فى نهاية الأمر كان ذلك استعراضًا لجانب من جوانب السلطة الثالثة فى نظام الحكم المصرى، وعرض لبعض أوجه وملامح تلك السلطة، التى بلا شك تهم وتعنى كل مواطن يعيش على أرض مصر، ويحلم بوجود هيئة قضائية عادلة ومستقلة وشامخة وقوية كعامود من أعمدة صلابة الدولة وقوتها.
"إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ۚ أن اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ ۗ أن اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا".. هل هناك أفضل من كلام الله عز وجل لتكون تلك الآية المباركة شعارًا للقضاء المصرى فى داخل جميع قاعات المحاكم المصرية، ومبدأ لكل قاضٍ أقسم على الالتزام بشرف المهنة.
القضاء الذى عُرف فى مصر منذ غزو الحملة الفرنسية والتى قام فيها نابليون بونابرت بتولية العلماء المصريين القضاء بالانتخاب بدلاً من القضاة الأتراك، ثم نشأة "المحاكم المختلطة فى مصر" عام 1875 والتى اختصت بالفصل فى المنازعات الميدانية بين المصريين والأجانب، إلى أن أنشئت "المحاكم الأهلية" عام 1883 المختصة بنظر المنازعات بين المصريين.. حتى جاء دستور 1923 والذى أقر اعتبار القضاء كأحد سلطات الدولة، فضلاً عن إقرار أن "القضاة مستقلون، لا سلطان عليهم فى قضائهم لغير القانون، وليس لأية سلطة فى الحكومة التدخل فى القضايا"، ومن بعده صدور أول قانون لاستقلال القضاء المصرى عام 1943.
إن تاريخ الهيئة القضائية فى مصر حافل بالمواقف المضادة الجادة والمهمة فى مواجهة السلطات التنفيذية والحكومات المختلفة، والتى كان منها عقد مؤتمر العدالة الأول عام 1986 للتقدم بعدد من المطالب لتحرير السلطة القضائية من الهيمنة الإدارية والمالية للسلطة التنفيذية، وكان فى مقدمة تلك المطالب نقل تبعية التفتيش القضائى وصندوق الرعاية الصحية من وزارة العدل إلى مجلس القضاء الاعلى، بالإضافة إلى المطالبة بتخصيص موازنة مالية منفصلة للقضاة، كما شهد تاريخ مصر القريب مواجهات كبرى بين تيار استقلال القضاء ونظام "مبارك"، فيما عرف باسم "أحداث القضاة"، التى كشفت عن التجاوزات التى وقعت فى الانتخابات التشريعية التى أجريت عام 2005 وأشرف عليها القضاة.
أما عن تاريخ الثورة المصرية منذ عام 2011، فتعد تلك الفترة الأكثر اشتعالاً فى تاريخ السلطة القضائية فى مصر، حيث جرت الأمور إلى أن وضعت الأحكام القضائية محلاً للانتقاد، بعد تحملها عبء مسئولية محاكمة نظامين سابقين مرا على الدولة، لم يتعاطف معهما الشعب المصرى واتهمهما بارتكاب الجرائم فى حق الدولة المصرية، وكان الأبرز فى تلك المحاكمات هى محاكمة كل من محمد حسنى مبارك رئيس الجمهورية الأسبق، بعد اندلاع ثورة 25 يناير، وتوجيه بعض الاتهامات له ولأسرته ما عرفت بـ"قضية القرن"، ومحاكمة الرئيس الأسبق محمد مرسى" عقب اندلاع أحداث ثورة 30 يونيو، وبدوره أيضًا تم توجيه بعض الاتهامات له، كل ذلك فى نطاق حالة من التعصب والشد والجذب بين أبناء الوطن، ووقوع مئات الأحداث التى خولت جميعها إلى السلطة القضائية للفصل فيها..
واجه القضاء المصرى خلال تلك الفترة محاولات عنيفة لتدمير تلك المؤسسة الشامخة كغيرها من المؤسسات حينها، وشهد القضاة بمختلف مناصبهم هجمات شرسة، كان من المتوقع بعدها سقوط تلك السلطة، ولكن كان الواقع دائمًا ما يعكس سلطة قضائية شامخة بمختلف أركانها، كواحدة من المؤسسات القليلة التى حافظت على تماسكها فى الدولة بعد كل تلك الأحداث وتغييرات الأوضاع.
كان يجب فى ظل بحث تلك الهيئة على ضمان المزيد من حقوقها خلال تلك الأيام، أن نتعرف على منادات رجال العدالة فى الوقت الحالى من إقرار تشريعات والحصول على حقوق وتحسين للمنظومة الإدارية بكل أشكالها والصراعات التى يواجهونها، وكان الجانب الأول من البحث هو نادى قضاة مصر والذى يعد صوت القضاة المصريين، المتحدث باسم أحلامهم ومطالبهم والدفاع عن حقوقهم، والذى أنشئ عام 1939 على يد مجموعة من رجال القضاء والنيابة العامة، وكان هدفه هو العمل على استقلال القضاء المصرى وضمان استقلالية رجاله.. نادى القضاة المعروف بمواقفه الدائمة أمام كل حدث تتعرض له الهيئة القضائية أو تتعرض له الدولة بصفة عامة.
وكان اللقاء مع المستشار عبد العزيز ابو عيانة رئيس محكمة جنايات الاسكندرية ورئيس نادي قضاة الاسكندرية واحد اعضاء مجلس ادارة نادي قضاة مصر , والذي فاز مؤخرا في الانتخابات المنعقدة في مايو الماضي للمرة الثانية علي التوالي , ومن الجدير بالذكر ان المستشار ابو عيانة قد فصل بنفسه في بعض القضايا التي كان يحاكم فيها ابناء مبارك مع بعض رموز النظام السابق , ولم يكن هو اللقاء الاول لنا معه, وقد بدأ حديثه عن قوة القضاء المصرى مستمدة من تراث ذلك الشعب العظيم، نظرًا لأن كل حكم يبدأ باسم الشعب، ودائمًا ما يسير أبناء القضاء على نهج وخطى من يستمسكون بكرامتهم ويؤثرونها على حياتهم.

وتحدث عن الاتهامات التى وجهتها بعض الدول الغربية فى الفترة الماضية، حول التشكيك فى نزاهة أحكام القضاء المصرى وتوجيه الادعاءات بغياب حقوق الإنسان داخل السجون والأقسام والمحاكم المصرية، حيث وجه الزند سؤاله حول وجود أسوأ وأبشع مما فعلته الولايات المتحدة الأمريكية بجوانتنامو فى مجال حقوق الإنسان، وإن لم يوجه لهم أى استنكار على ما فعلوه ولا لوم.
واستكمالاً للاتهامات الموجهة دائمًا إلى الهيئة القضائية خاصة بعد تحملها مسئولية الفصل فى القضايا الخاصة برجال الأنظمة السابقة، أشار البعض لها بالتأخر فى تحقيق العدالة الناجزة والحكم والفصل فيها، وقد أكد الزند فى ذلك الصدد أن بُطء التقاضى حقيقة لا مراء فيها، وعدم وجود عدالة ناجزة حقيقة لا مراء فيها ومن ينكرها فهو خائن لهذا الوطن، لكنه أرجع أسباب ذلك إلى بعض القضاة بنسبة 5% - على حد وصفه، وتعد نسبة مقارنة بالمعايير العالمية مقبولة جدًا فى أن تجد فئة أو سلطة أو هيئة نسبة نجاحها تحقق 95%، واستكمل أنه منذ مارس 2011 حققت النيابة العامة مع مئات الآلاف فى القضايا المختلفة، منها قضية قُدِم فيها 360 متهمًا، حقق خلالها مع أكثر من ألف شخص، لأن عمل القاضى والنيابة لا يقتصر على التحقيق مع المتهمين فقط، ولكن هناك الشهود أيضًا.
وأضاف، أن الظروف التى يعمل بها القضاة منذ ذلك التاريخ، ومنها غياب الخدمات عن مقرات المحاكم المصرية، وأيضًا غياب الأمن والتأمين عليها، والسبب الثالث - الذى وصفه الزند بأنه من المضحكات المبكيات - هو غياب أماكن إجراء المحاكمات فى بعض الأحيان نظرًا لقلة قاعات الجلسات، والتى خصصت لظروف العمل الطبيعية للمحاكمات التى تضم متهمين أو ثلاثة، أما قضايا الإرهاب الكبرى يقتصر الأمر فيها على ما أنشئ فى أكاديمية الشرطة ومعهد أمناء الشرطة فقط داخل نطاق وحدود القاهرة الكبرى، أما عن باقى المحاكم فقد أصبحت تعمل على فترتين متتابعين، وكل تلك الظروف موجودة منذ عدة سنوات ولكنها تفاقمت منذ اندلاع الأحداث الأخيرة فى مصر.
وأوضح، أن ما سبق كان هو الجانب المادى فى مسألة العادلة الناجزة، وهناك جانب آخر يختص بالتشريع، والذى حينما يتصدى القضاة لإجراء التعديلات يواجهون أمرين؛ كل منهما أسوأ من الآخر، أولاً "ترقيع" القوانين الموجودة، والثانى عدم إشراك القضاة فى إقرار التشريعات القضائية، مشددًا أنه ما زال نادى القضاة مستبعدًا من كل شىء، وهو الكيان الذى يحتضن 15 ألف قاضٍ.
ومما يثر الدهشة فى حديث رئيس نادى القضاة، هو تأكيده أن هناك بعض القضايا تُحدد لها أولى جلسات المحاكمة بعد مرور ثلاث سنوات من تحويلها إلى المحاكمة، بسبب انتظار "الدور" الطويل أمام أعداد المحاكمات.
وأخيرًا اشار ابو عيانة، بأنه يذكر لنادى القضاة فى أنه ضرب الرقم القياسى فى التطهير، وأن جملة ما تم تحويلهم لمجالس التأديب والصلاحية فاق المئة، وهو ما لم تشهده أى مؤسسة أو وزارة أو كيان آخر فى مصر، ومع ذلك مازال يواجه القضاة فى مصر شكلاً من أشكال الاستباحة لبيانات القضاة، فإن وزارة العدل والسلطة القضائية بأثرها ليس فيها بيان سرى عن قاضٍ، ثم يلقى بكل تلك البيانات فى أيادى الموظفين، ما يعود بالتهديد المستمر على حياة أى قاضٍ ومحاولات استهدافهم الذى بات سهلاً ويسيرًا.
ومن بعد نادى قضاة مصر كان البحث فى ركن آخر من أركان الهيئة القضائية، وهم رؤساء المحاكم المصرية وشيوخ قضاتها، وكانت البداية مع رئيس محكمة الإسكندرية وعضو المجلس الأعلى للقضاء المستشار سعد السعدنى، والذى افتتح حواره بأن القضاء المصرى تعرض لمحنة فى ظل العصور الحاكمة السابقة، حيث إن النظام السابق كان يعتقد أن القضاء فاسد ولابد من إعادة هيكلته، إيمانًا منهم بأن القضاة فاسدون، مؤكدًا أن منظومة القضاء تحتاج إلى التعديل بالفعل، لكن ليس رجال القضاء ووكلاء النيابة، لكن المنظومة الإدارية التى تعوق القاضى من أن يصل للعدل المطلق، فإن القاضى دائمًا ما يحكم وفقًا للأوراق والمستندات التى أمامه، وهو ما يستدعى التطوير ودخول المنظومة الإلكترونية للقضاء، مراعاة ظروف الموظفين ليصلوا إلى حد الكفاف حتى لا يلجأ الموظف للرشاوى والتزوير.
واستكمل، أن قضاة مصر يرفضون دائمًا المزايدة عليهم، وأن القضاة هم القائمون على شئون منظومة العدالة، وهم الأدرى بأوجه القصور فيها ومشاكلها وحلولها، ومن غير اللائق والمقبول أن يتم تصحيح أى أمور تخص العدالة من جهة أخرى غير القضاة أنفسهم حراس العدالة.
وأما عن المحطة الأخرى كانت مع المستشار على مكرم، الذى عرض رسالة قضاة النقض المتمثل فى تحقيق العدل الذى يعد أسمى القيم الإنسانية وأهمها، يتحقق به السلام الاجتماعى، واستقرار المجتمع وسلامته، مشددًا على أن العدل لا يتحقق إلا بقضاء عادل يمثل ضمير الأمة من خلال سلطة قضائية محايدة مستقلة تنزل حكم القانون على الكافة دون تمييز بينهم، مضيفًا أنه لا تستقر أركان الحكم فى البلاد ولا تزدهر الأمور بدون العدل، لأنه طريق الخير والرخاء والاستقرار، ما يجعل دائمًا المجتمعات المتحضرة شديدة الحرص على تحقيقه.
بعد الانتهاء من مراحل البحث فى أركان الهيئة القضائية المصرية، استوقفنى خبر يتحدث عن وجود أزمة بين نادى القضاة ونقابة المحامين فى إطار السعى للوقوف على أوجه القصور والمشكلات التى تواجه المنظومة، سواء كانت إدارية أو قانونية لمعالجتها وتقديمها للرئاسة من جانب نادى القضاة ونقابة المحامين فى الوقت ذاته، وهو ما كان غريبا من هيئتين يفترض أن يصبوا فى بحر العدالة الواحد، فالمحامون هم الوجه الآخر من منظومة العدالة فى مصر، ولذلك تعين علينا التحدث إلى نقيب المحامين الأستاذ سامح عاشور السياسى والحقوقى المصرى، والذى شهد تاريخه نضالاً واسعًا فى الكثير من القضايا القومية والعربية ضد التبعية والصهيونية، لنتعرف منه عن دور المحامين فى منظومة العدل وإنجاز العدالة ونقترب من الجدل الدائر بين النقابة ونادى القضاة.
وبدأ حديث عاشور بالتأكيد على أن نقابة المحامين شريك أساسى فى تحقيق العدالة مع السلطة القضائية، وطرف رئيسى فى منظومة العدالة، ويرى أن محاولات استدراج النقابة والمحامين إلى مواجهة مع نادى القضاة مقصود من جهات تريد أن تصرف المجتمع المصرى كله عن أن يتخذ خطواته التدريجية المركبة من أجل الوصول إلى مصر الجديدة التى نسعى إليها.
وأوضح، أن الخلاف مع نادى القضاة يتمثل فى رؤية نقابة المحامين فى ضرورة إزالة بعض القوانين التى تحتاج إلى التصويب وإحلال أخرى مكانها، بالإضافة إلى حرص النقابة على إقرار إجراءات يجب أن تتم لتساعد السلطة القضائية فى مسألة العدالة الناجزة، وهو ما يستلزم إجراء ثورة تشريعية من اجل انضاج العدالة وإزاحة كل العوائق التى تحول دون تحقيق العدل والحرية فى مصر، وأضاف أن كل ذلك يلتزم مشاورة جميع أطراف المنظومة مع بعضها لبعض لمناقشة كل تلك الأمور الهامة من أجل مصلحة القضاء المصرى.
وأشار إلى ضرورة النقاش حول أدوار الجهات المعاونة للقضاة والجهات المعاونة للمحامين فى أداء عملهم، كدور المحضرين وكيفية الاستفادة من دورهم دون عرقلة إنجاز عملية العدالة، فضلاً عن الجهاز الإدارى والخبراء وجهاز الطب الشرعى، مؤكدًا أنه إذا تم تنظيم العمل بين جميع تلك الجهات بشكل صحيح، تصبح نتيجته فى صالح العدالة المصرية.
وأكمل عاشور، أن النقابة تسعى فى الوقت الحالى إلى إجراء حلقات نقاشية تضم رئيس الجمهورية ونقابة المحامين ونادى القضاة والمجلس الأعلى للقضاء ووزارة العدل، مشددًا على أنه لدى كل من تلك الجهات رؤيا نستطيع بالنقاش والحوار المحترم الوصول إلى نتائج إيجابية.
وعبر عن وجهة نظره فى أن القضاء ليس ملكًا للقضاة، ولكنه ملكًا للمجتمع كله لأنه صاحب مصلحة فى وجود قضاء عزيز ومستقل وناجز.
فى نهاية الأمر كان ذلك استعراضًا لجانب من جوانب السلطة الثالثة فى نظام الحكم المصرى، وعرض لبعض أوجه وملامح تلك السلطة، التى بلا شك تهم وتعنى كل مواطن يعيش على أرض مصر، ويحلم بوجود هيئة قضائية عادلة ومستقلة وشامخة وقوية كعامود من أعمدة صلابة الدولة وقوتها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق